لنا الحق أن نفخر به | يلا شوت

لنا الحق أن نفخر بنجيب محفوظ، ذلك الاسم الذي يلامس ذاكرة الأمة العربية بجلاله، والذي يعطر صفحات الأدب بروحه العميقة ورؤيته المتميزة، هو ليس مجرد كاتب، بل هو صوت من الأصوات التي تقف في وجه الزمن، تحدد معالم الفكر وتشكّل وجدان القارئ العربي، وتظل أعماله تتردد في أرجاء الكون، حاملة معها رسالة تُكتب بحبر المعاناة والإنسانية.
منح نجيب محفوظ – الذي مرت مؤخرا 113 سنة على مولده – الأدب العربي بعدًا عالميًا، فكان صاحب أول جائزة نوبل للآداب من بين كتابنا العرب، لينقش اسمه في سجلات التاريخ الأدبي بكل فخر.
إن أعماله ليست مجرد سرد لحكايات ووقائع، بل سردٌ يتسلل إلى أعماق النفس البشرية ليجسد معاناتها وأحلامها، ويعرض صراعاتها بين الخير والشر، الحرية والعبودية، الفقر والغنى، ليخلق من هذا الصراع نسيجًا فكريًا ممتدًا.
يتميز نجيب محفوظ بقدرته الفائقة على تحليل الروح البشرية وفتح أبوابٍ نادرة لفهم المجتمع المصري بشكل عميق، وكأن كل جزء في رواياته هو مرآة لعصرٍ بأسره.
أعماله، مثل “الحرافيش”، “اللص والكلاب”، “الثرثرة فوق النيل”، لم تكتفِ بتوثيق صورة من الصور الحياتية بل تجاوزت ذلك لتستعرض الأفكار التي تتحرك خلف كل فعل بشري، فاختزلت في صفحاتها ذاكرة أمة وأوجاع شعب، وسط معركة تاريخية بين الطموحات البشرية وواقعها القاسي.
وماذا عن الأسلوب؟ أسلوبه الأدبي، الذي يتراوح بين السرد الهادئ واللغة الرقيقة، كان مزيجًا من البساطة العميقة، والعمق البسيط. لغة نجيب محفوظ ليست محض كلمات، بل هي أدوات لتخليق عالم متكامل؛ عالمٌ يتراءى لك في كل جملة، عالم يلتقي فيه الواقع مع الخيال، ويقف فيه الإنسان أمام نفسه متسائلًا عن وجوده.
إن الحديث عن مقارنة بين نجيب محفوظ ورواد الأدب الواقعي مثل دوستويفسكي وديكنز وبلزاك يفتح آفاقًا واسعة للفكر. فكل واحد من هؤلاء الكتاب قدّم للعالم نماذج إنسانية تعيش بين المعاناة والتمرد، وكل منهم استخدم أدواته الخاصة للإضاءة على قسوة الحياة وأسرار النفس البشرية. ولكن، وعلى الرغم من تميزهم في هذا المجال، يظل نجيب محفوظ فريدًا في سياقه الثقافي والاجتماعي.
ديستوفسكي حمل هموم الإنسان الروسي في مواجهة الظلم والجوع والفساد الروحي.
أما ديكنز فقد صور الحياة في إنجلترا تحت وطأة التغيرات الصناعية، وكشف عن قسوة طبقات المجتمع.
بينما بلزاك اهتم بتفاصيل الطبقات الاجتماعية في فرنسا، باحثًا في تأثير المال والطموحات على العلاقات الإنسانية.
لكن، ما يميز نجيب محفوظ عن هؤلاء قدرته على الجمع بين الواقعية الاجتماعية والرمزية الفلسفية.
كان له حضور خاص في تصوير الواقع المصري، ولكن بطريقة لم تُفقده عنصريته الأدبية.
استطاع أن يتجاوز “الواقعية” ليغنيها بعوالم رمزية تحمل أبعادًا أعمق، تجعل من أعماله أنماطًا متعددة القراءة، لتجذب القارئ تارة نحو حكاية واقعية ملموسة وتارة أخرى نحو تأملات عقلية وفلسفية تعكس الصراع الأبدي بين الحرية والمصير.
إن نجيب محفوظ أديب عالمي بامتياز، ولكنه أيضًا ابن مصر، أديبٌ من رحم الأرض التي أنجبت ملايين الأفكار والمعاناة، ورغم تنوع معطيات الأدب الواقعي في العالم، إلا أن نجيب محفوظ يبقى في مكانة متميزة.
فلا نبالغ إذا قلنا إن الأدب العربي بأسره كان بحاجة إلى قلمٍ كقلمه ليحمل هموم الأمة ويسلط الضوء على التوترات الاجتماعية والسياسية بروح متفردة.
نجيب محفوظ، دون شك، كان من أولئك الذين وضعوا البُعد العربي في قلب الأدب الإنساني، وجعل من الحروف وسيلة للعبور إلى عوالم الفكر والروح.
المؤكد أنه كان ظاهرة فريدة، هو ليس مجرد أديب، بل فكرٌ متكامل وطريقة خاصة في تناول الواقع الإنساني، مما جعل أعماله خالدة ومتميزة.
ولكن في عالم الأدب، لا تكرر الظواهر بنفس الصورة أو الأسلوب، فالأدب، مثل أي فن، هو نتاج لزمان ومكان وأشخاص معينين.
نجيب محفوظ كان نتاجًا لمرحلة تاريخية وشخصية وثقافية، ولذلك من الصعب أن نجد “نجيب محفوظ آخر” بمعنى التكرار الحرفي.
لكن المؤكد أن هناك الكثير من الكتاب العرب يقتفون أثر نجيب محفوظ ويحاولون أن يقتربوا من أعماق المجتمع العربي والأزمات الإنسانية التي جسدها في رواياته. ولكن الأدب لا يتوقف عند مجرد الأسلوب.
فحتى لو وجدنا كاتبًا يمتلك أسلوبًا مماثلاً، سيظل هناك فارق جوهري بين “محفوظ” و”الآخر”، الزمان والمكان لا يعيدان أنفسهما.
على الرغم من أن نجيب محفوظ كتب عن الواقع المصري في القرن العشرين، إلا أن العالم اليوم مختلف، والتحديات التي يواجهها الناس اليوم قد تغيرت.
من الممكن أن يظهر كاتب جديد يتصدى لتحديات المجتمع العربي في المستقبل، لكن من غير المرجح أن يظهر هذا الأديب الجديد في الوقت القريب بنفس الأسلوب أو الشكل الذي جاء به نجيب محفوظ.
الزمن يفرض على الأدباء تطورًا في الأسلوب والمضمون، والتغيرات التقنية والثقافية والاجتماعية في العالم ستسهم في ظهور نوع جديد من الكتابة.
قد يظهر أديب يتعامل مع الأدب العربي بأسلوب غير تقليدي، أو ربما يعبر عن الواقع بأساليب فنية مستمدة من الرمزية الحديثة أو الخيال العلمي أو حتى أساليب الكتابة الرقمية التي تمثل ملامح جديدة للأدب المعاصر.
سيظل نجيب مرجعًا، وقد لا يكون لدينا نجيب آخر، لكننا ربما نرى أدباء يعكسون روح العصر، وإن اختلفت الوسائل والأساليب.
تعليقات