جمال حمدان عبقري الجغرافيا – الوطن | يلا شوت

في عالم الجغرافيا، لا تُذكر مصر إلا ويأتي اسم جمال حمدان كأحد أبرز العقول التي غيرت مفهومنا عن المكان والتاريخ والجغرافيا السياسية.
لم يكن مجرد أكاديمي يدرس الخرائط والمساحات، بل كان فيلسوفًا جغرافيًا رأى أن الجغرافيا ليست مجرد تضاريس، بل مفتاح لفهم هوية الأمم وصراعاتها ومصيرها.
وُلد جمال حمدان عام 1928 في قرية ناي بمحافظة القليوبية، وسط أسرة تقدّر العلم وتضعه في المقام الأول، التحق بكلية الآداب، قسم الجغرافيا، بجامعة القاهرة، وأظهر نبوغًا لافتًا أهّله لنيل منحة دراسية في بريطانيا، حيث حصل على الدكتوراه، لم يكن مجرد طالب متلقٍ للعلم، بل كان ناقدًا للمناهج الغربية التي حاولت فرض تصوراتها على المنطقة العربية، وهو ما سيظهر لاحقًا في أعماله.
رغم نجاحه الأكاديمي، لم يكن حمدان عالمًا ينعزل عن قضايا وطنه، كان ناقدًا شديدًا للوجود الاستعماري والصهيوني في المنطقة، ورأى في الجغرافيا أداة لفهم طبيعة الصراع، ربما لهذا السبب، دخل في خلافات مع بعض الجهات الرسمية، ما أدى إلى استقالته من الجامعة في الستينيات، لكنه لم يعتبر ذلك خسارة، بل تحول إلى نمط حياة انعزالي، كرسه بالكامل للبحث والتأليف.
كانت رؤية جمال حمدان للجغرافيا متجاوزة للمألوف. لم يكن يعالج الموضوعات بوصفها حقائق جامدة، بل كان يربط الجغرافيا بالسياسة والتاريخ والثقافة.
نظرته لمصر لم تكن محصورة في نهر النيل والصحراء، بل في دورها الحضاري عبر العصور، وهو ما عبّر عنه بوضوح في كتابه الأهم: «شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان»، يُعد هذا الكتاب موسوعة متكاملة عن الهوية المصرية.
استغرق حمدان في كتابته ما يقرب من 17 عامًا، ليخرج بأربعة مجلدات تكشف كيف تشكلت شخصية مصر عبر الجغرافيا والتاريخ، فسر فيه أسباب صعود وهبوط الحضارات في مصر، وطرح رؤى استشرافية لدور مصر المستقبلي، الكتاب ليس مجرد دراسة علمية، بل هو شهادة حب وعشق لمصر، تنبض بالحياة في كل صفحة.
كان من أوائل الذين أدركوا خطورة المشروع الصهيوني، ليس فقط من الناحية السياسية، بل من خلال فهم عميق للجغرافيا.
في كتابه «اليهود أنثروبولوجيًا»، قدم طرحا صادما بأن اليهود الحاليين لا ينتمون جغرافيًا للمنطقة العربية، بل هم من أصول خزرية، ما ينزع عنهم شرعية الادعاء التاريخي بأرض فلسطين، هذه الفكرة أثارت جدلًا واسعًا، وجعلته في مواجهة مع جهات عديدة.
اختار حمدان العزلة التامة في شقته بحي الدقي، مكتفيًا بأبحاثه وكتبه، لم يكن يخرج إلا نادرًا، وكان قليل الظهور الإعلامي، مما زاد من هالة الغموض حوله، هل كان يخشى شيئًا؟ أم كان ببساطة زاهدًا في ضجيج العالم الخارجي؟ ربما كان كلا الأمرين معًا.
في أبريل 1993، اكتشفت وفاته، عُثر على جثمانه محترقًا جزئيًا داخل شقته، وسط سيناريوهات غامضة أثارت تساؤلات كثيرة.
لم يُعرف بالتحديد كيف نشب الحريق، وهل كان مجرد حادث عرضي أم مدبرا، بعض النظريات أشارت إلى احتمال اغتياله بسبب أبحاثه الخطيرة عن الصهيونية، بينما رأى آخرون أن الحادث مجرد قضاء وقدر.
لكن، كما هو الحال في حياة حمدان، ظلت الحقيقة محاطة بالغموض، وتبين اختفاء أوراق مجلد ضخم كان عكف على كتابته يصل عدد صفحاته إلى ألف صفحة، كما ظهر أن رجلا وامرأة قال الجيران إنهما خواجات سكنا قبل وفاته بشهرين في الشقة التي تعلو شقته ثم اختفيا بعد وفاته، ولم يظهرا مرة أخرى.
لم تمت أفكار حمدان، بل ظلت حيّة في عقول الباحثين وصناع القرار، رؤاه الجغرافية ما زالت تُدرس، وكتبه لا تزال مصدرًا رئيسيًا لكل من يريد فهم الجغرافيا السياسية لمصر والمنطقة.
في زمن يتغير فيه العالم بسرعة، يظل فكر حمدان مرجعًا ثابتًا لفهم جذور الحاضر واستشراف المستقبل.
كان جمال حمدان أكثر من مجرد جغرافي، كان فيلسوفًا وطنيًا، وعالمًا يمتلك رؤية تحليلية نافذة، ربما اختار العزلة، لكنه لم يكن يومًا بعيدًا عن قضايا وطنه.
وربما رحل في ظروف غامضة، لكن فكره لا يزال حاضرًا، يطرح الأسئلة ويبحث عن الحقيقة، كما كان صاحبه يفعل دائمًا.
رحم الله جمال حمدان، الرجل الذي قرأ مصر بعيون المستقبل.
تعليقات